ديبيش شاكرابرتي Dipesh Chakrabarty من مفكري الحداثة وهو يدعو إلى فهم جديد لها في سياقاتها المختلفة، ويدعو أيضاً إلى "حداثة بديلة" يتحدث عنها باستفاضة في كتابه ”مواطن الحداثة: مقالات في صحوة دراسات التابع“، الذي صدر حديثاً في ترجمة عربية لمجيب الرحمان وصدر عن ”كلمة“. بالإضافة إلى ذلك، هو مؤرخ متخصّص في تاريخ الأديان، ودرس العنف الطائفي الذي عايشه شخصياً في الهند، كما أنه مفكر يعيد النظر في المقولات السائدة ويفكك التمركز الأوربي فاتحاً الحداثة على إعادة التشكل الكوني خارج المركزية الأوربية. ديبيش شاكرابرتي أستاذ التاريخ واللغات والحضارات في شرق آسيا في جامعة شيكاغو، من مؤلفاته كذلك:
”إعادة التفكير بتاريخ الطبقة العاملة: البنغال: 1890-1994“.
و”ترييف أوربا: الفكر ما بعد الاستعماري والاختلاف التاريخي“.
أسامة إسبر: تُرجم كتابك مواطن الحداثة: مقالات في صحوة دراسات التابع، مؤخراً إلى العربية ونُشر في إطار مشروع "كلمة"، ما شعورك حيال هذا؟ ما الذي توقظه فيك اللغة العربية؟
ديبيش شاكرابرتي: أشعر بالامتنان لهذا التطور. ذلك أنّ كتابي، ربما كما تعرف، اختير من بين عدد من الكتب باللغة الإنكليزية التي تهدف إلى إدخال قضايا فكرية مثيرة للجدل إلى العالم الناطق بالعربية. وهذا شرف لي. وقد شعرتُ بالإثارة كوني شخصاً وُلد ونشأ في الهند ويفكر بالعالم ومشاكله من خلال مواد التاريخ الهندي. إن للهند علاقة طويلة وراسخة مع الثقافات العربية ليس فقط بسبب تاريخ الإسلام في شبه القارة ولكن أيضاً من خلال اللغة. إن لغتي الأصلية، البنغالية، أو البنغالا، كما نسميها، تحتوي على الكثير من الكلمات العربية (بالرغم من أنني متأكد من أنها خضعت للتحول المحلي). وفي الحقيقة إن الشعراء المسلمين الذين عبّروا عن فكرهم الديني في اللغة البنغالية قاموا بالدفاع الأول عن هذه اللغة حسب علمي.
أسامة إسبر: تدعو في كتابك إلى حداثة بديلة، تسميها الحداثة ما بعد الاستعمارية، ما هي خصائص هذه الحداثة وكيف يمكن إنجازها؟
ديبيش شاكرابرتي: إن تعبير "حداثة بديلة" ليس دعوة إلى الفعل. إنه ليس تعبيراً برامجياً بأي معنى مباشر. إن حديثنا عن "حداثة بديلة" لا يعني تشجيع الناس على إبداع "حداثة بديلة" للحداثة التي من المفترض أنها موجودة. كلا، أنا أفكّر بالتعبير أكثر كأداة مساعدة على الكشف لفهم الفروقات داخل الحداثة (التي هي عالمية دائماً). فالحداثة في جميع الأمكنة تستلزم استخدام العلم، والبيروقراطيات الحديثة، والجامعات والإبداعات التكنولوجية والأفكار عن الاستقلالية والتمثيل الذاتي على مستويات مختلفة، من الفرد إلى الجماعات، وهلمّجرّا. ولكن، على الأرض، تجد أن هذه الكلمات، التي قد تكون كونية على المستوى المفهومي، تُصوِّر أو تصف أو تعبّر عن مواقف تختلف بين مكان وآخر. هذا يعني أنه بينما يمكن أن تعني الحداثة، فلسفياً، التزامنا بمُثُل تجريدية معيّنة قابلة للتطبيق كونياً، فإن ما ندركه بالفعل، باسم هذه الكلمات، هو دوماً شيء ما تعدّله بعمق تواريخ وأزمنة قديمة محلية (أي أزمنة قديمة نحن واعون لها وأخرى نحملها دون معرفة منا). بهذا المعنى، هناك دوماً مجال "للبدائل" داخل الحداثة. فالحداثة ليستْ سيرورة مُجَانَسَةٍ. وهذا لا يعني ، بأية حال، أنه لا يمكن أن تجري محادثات بين التجارب المختلفة للحداثة. بالطبع، يمكن أن يحدث هذا وقد كان موجوداً على الدوام. ولكن هذا موضوع آخر.
أسامة إسبر: إن الحداثة مرتبطة كما تقول بتبرير العنف من قبل المُسْتَعْمرين، هل تعتقد أن شريحة المفكرين في أميركا، وخاصة الذين يناصرون مثلاً الغارات التي تشنّها طائرات بدون طيار، والتدخل العسكري في الدول الأخرى، تكرر القصة نفسها؟
ديبيش شاكرابرتي: أنا أفرّق بين الإمبراطوريات الأوربية القديمة التي انهارت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعد الهيمنة الأميركية على العالم بعد الحرب. إن القوى الإمبريالية نشرت بالفعل نظرية تقول إن "السكان المحليين" ليسوا مهيأين لحكم أنفسهم، وبالتالي يحتاجون إلى فترة من التعليم من أجل أن يتم تجهيزهم للاستقلال. أما التدخلات الأميركية فقد كانت دوماً باسم التطبيق الفوري للديمقراطية في أجزاء مختلفة من العالم. نظرت الإمبراطوريات الأوربية، إلى السكان المحليين على أنهم ليسوا مهيأين "أبداً" لحكم أنفسهم، لكنّ البلاغة الأميركية فعلتْ العكس: صوّرتْ المحليين على أنهم "مهيأون دوماً" للديمقراطية لكنّهم ممنوعون من ذلك من قبل سلطة استبدادية من واجب الأميركيين الإطاحة بها. وهكذا بينما هناك هيمنة أميركية فإن القصة التي تُروى لتبريرها مختلفة، نوعاً ما، عن القصص التي روتْها القوى الإمبريالية القديمة لنفسها وللآخرين. هذا أحد الأسباب التي تفسّر لماذا لا يرى الأميركيون أنفسهم كقوة إمبريالية بل يرون أنفسهم كمعارضين للإمبراطوريات.
أسامة إسبر: إن الله يعلم الحب، ولكن يمكن أن يُؤول على أنه يُعلم الكراهية، بالمعنى الأنثروبولوجي، كيف حدث أن الله تحول إلى أداة، كيف نجحت القوة في توظيف الله في الحروب الطائفية أو الحروب "المقدسة" الأخرى؟
ديبيش شاكرابرتي: هذه قصة معقدة. إن الكراهية هي على الأرجح (وعلى نحو محزن ) عاطفة إنسانية كونية ومحورية للصراعات بين الجماعات. فالهويات منخرطة في إثارة العنف كما هو واضح. إن الأفكار عن المقدس غالباً ما تعير نفسها بسهولة لأفكار عن "التضحيات"، قد تكون هناك حاجة إليها لحماية المقدس، ذلك أن أي شيء نفكر به كمقدس يصبح أيضاً معرضاً للانتهاك والتدنيس. أعتقد أن هناك صلات عميقة بين الأفكار عن القداسة والعنف. ولكن "الحرب المقدسة" هي فكرة تنتمي إلى تراثات تاريخية محددة جداً. ففي الديانة الهندوسية، التي وُلدْتُ في كنفها، ثمة أفكار عن الحروب الأخلاقية dharmayudh، ولكن ليس عن الحروب المقدسة (رغم أن الحركة الوطنية الهندية استعارت أفكارها عن الشهادة والتضحية من الإسلام وكلمة "شهيد" شائعة جداً الآن في القاموس السياسي الهندي).
أسامة إسبر: في باكستان والهند، حوّل الناس القنبلة النووية إلى رمز مقدس، منحوها دوراً دينياً، فقد دعوها بـ "القنبلة الهندوسية"، وبـ "القنبلة الإسلامية"، كيف تشرح هذه الهستريا القومية أو الدينية؟
ديبيش شاكرابرتي: إنها شوفينية قومية عدائية جاهلة إلى حد كبير. لقد سمعتُ قصة (آمل أن تكون ملفّقة) تقول إن الهندوس المتعصّبين جمعوا الغبار من الموقع الذي اختبرت فيه القنبلة النووية، ووزعوا الغبار فيما بينهم على أنه شيء "مقدس"! لا تستطيع أن تجادل جهلاً مطلقاً كهذا.
أسامة إسبر: لقد درستَ الصراعات الطائفية في سياق بلدك، ما الذي يصنع الحقد الطائفي؟ أين يكمن جذر هذا الحقد؟
ديبيش شاكرابرتي: لم تحدث الصراعات الطائفية بين الجماعات الهندوسية المختلفة فحسب، ذلك أنّ لها تاريخاً طويلاً في الهند. ولكن المؤسسات الحديثة شكلت للبعض فرقاً نوعياً وكمياً مهماً جداً. إن تكنولوجيا الاتصالات الحديثة جعلت التعبئة ممكنة على موازين كبرى قومية، كما أحدثت الأسلحة الحديثة فرقاً كبيراً أيضاً. ما كان مرة مناوشات قبل الحكم الاستعماري اتخذ شكل حرب أهلية بين الهندوس والمسلمين حين انفصلت الهند وباكستان إلى دولتين سنة 1947.
أسامة إسبر: هل تعتقد أن الإسلام يمكن أن يُصالح مع الحداثة؟
ديبيش شاكرابرتي: نعم أعتقد ذلك. أعتقد أن جميع الأفكار الدينية مفتوحة للجدل وإعادة التأويل ويمكن أن تُصالح مع الحداثة. ليس عليك إلا أن تنظر إلى المصلحين الإسلاميين في سياقات مختلفة كي ترى كيف صارعوا لجعل معتقداتهم الدينية منسجمة مع متطلبات حياة حديثة، والعكس هو الصحيح. ولكن بعد أن قلنا هذا، هناك دوماً نسخ عنيدة، وأحياناً حديثة جداً، من الأديان التي (باختيارها) تعارض الحداثة. إن الأكثر أرثوذكسية بين مقاتلي طالبان يعارضون تعليم المرأة لكنهم لا يعارضون أبداً التدرب على استخدام صنوف الأسلحة الحديثة، وهذا متناقض على نحو واضح.
أسامة إسبر: في عالمنا العربي نعاني من فجوة مخيفة؛ لدينا من يستهلكون آخر منتجات الحداثة، ولكنهم في الوقت نفسه يرفضون الخلفية الذهنية المُنتجة لها، إلى ماذا تشير هذه المشكلة برأيك؟
ديبيش شاكرابرتي: نعاني من هذه المشكلة في الهند أيضاً، وقد سبق أن طرحتُ مثالاً عن مقاتلي طالبان. ولكن هذه المعارك تُخاض في جميع البلدان اللاغربية حيث انطوت الحداثة دائماً على مجازفة أن تبدو غريبة عن السياق وغربية. إن الخلفيات الذهنية هي في الغالب مربكة. فأنا لا أستطيع القول إنني أفهم بشكل كامل التركيبة الذهنية للجماعات الدينية اليمنية في أميركا. ولكن المسألة الحقيقية، كما يبدو لي، هي سياسية أكثر مما هي روحية بمعنى أنه إذا كان بوسعك ضمان حكم القانون الذي يحمي القيم الأساسية للحداثة (كحقوق الفرد، وحرية الفكر، وحق الاختلاف، وحرية الصحافة، وهلمّجرّا) عندئذ فإن مشكلة "الخلفيات الذهنية" تصبح مشكلة خيار شخصي. إن الشيء الجوهري هو الحصول على موافقة عامة على حكم حديث للقانون يمنح القانون قوة حقيقية لتنظيم السلوك.
أسامة إسبر: هل كراهية الآخر مُحَفَّزَة سياسياً، أم هي مُتَضمَّنة في طبيعة الدين؟ هل هناك في التاريخ أديان لا تعرف الكراهية؟
ديبيش شاكرابرتي: إن فروعاً كثيرة في الأديان تعلّم الناس ألا يكرهوا الآخرين الذين لهم معتقدات مختلفة. من ناحية أخرى، إن الأديان جزء عميق من هويات البشر، والهويّات تسمّي الآخرين مختلفين. لا أعرف إن كان هناك دين يخلو من شعور بالكراهية. ولكن هل هذا جوهريٌّ في الدين؟ ليس أكثر جوهرية كما أعتقد مما هو في أية معتقدات ومشاعر معرّفة للهوية. فكّر بالقومية: إن بعض النسخ المسعورة منها تعزز في الحقيقة كراهية الآخر. ولكن الأديان القديمة التي دعاها الأوروبيون مرة خرافية كمثل دين سكان أستراليا الأصليين مثلاً، ربما لم تعزز أو تكرز بالكراهية كما تفعل الكثير من الأديان الحديثة.
أسامة إسبر: لا شك أنك تتابع الربيع العربي وثوراته، ثمة من يقول، بين الباحثين، إن الثورات لم تحقق أهدافها، وأن منها من وقع في فخ الطائفية، كمثل من يتحدث عن الصراع السني الشيعي. هل تعتقد أن شيئاً ما يحدث للثورات يغيّر من طبيعتها؟
ديبيش شاكرابرتي: يُقال غالباً عن الثورات بأنها تلتهم أبناءها. هذا محزن. ولكن هذا يحدث عادة حين لا تجري الثورة بشكل جيد. ينقلب الناس على بعضهم بعضاً، يصبحون مشتبهين ببعضهم بعضاً، وغالباً ما تتدفق هذه المشاعر السلبية على طول خطوط الفروقات الموجودة بين الهويات الموجودة سابقاً. هذه مجازفة تحملها جميع الثورات، وتكمن القيادة الجيدة في القدرة على العثور على مخرج من هذا المأزق والنجاة من هذه اللحظات في النهاية.